تشبيه المرأة بالشيطان بين الغزالي والدكتور الخشت رئيس جامعة القاهرة
محمد يسري الوثيقةحسنًا فعل الدكتور محمد عثمان الخشت رئيس جامعة القاهرة بوضع يده على تنقيح ما في كتاب "إحياء علوم الدين" لأبي حامد الغزالي، من الموضوعات والأحاديث الضعيفة والباطلة، وهو باب عظيم، يحتاج رجالا أشداء للاضطلاع بهذا الدور، نظرا لما للغزالي ومذهبه الكلامي من حضور قوي في المؤسسات الدينية الرسمية، ليس في مصر وحدها ولكن في العالم الإسلامي من شرقه إلى غربه واحتواء الكتاب على ما لا حصر له من هذا النوع.
فإذا كان المقصود بمصطلحي "تنقيح التراث" و"تجديد الخطاب الديني" هو النظر إلى التراث بمنهج التنقيح النبوي الذي وضع الرسول صلى الله عليه وسلم قاعدته الذهبية بأن الرسالة وعلم الشريعة يتوارثها "من كل خلف عدوله، ينفون عن الدين تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين"، فيا سعد المسلمين في زماننا بهذا الفهم الذي يعيدهم إلى المنبع الصافي لرسالة الإسلام؛ لكن المنادين بتنقيح التراث وتجديد الخطاب الديني حاليا لا ينظرون لهذه القاعدة.
وبعيدًا عن الدخول في النوايا، واختيار الدكتور الخشت للإمام الغزالي- رحمه الله- كنموذج لبيان ما في التراث من عيوب، فإنه لا يفوتني أن أذكر أن الدكتور الخشت يمثل الفلاسفة والمدرسة الرشدية التي لا تعارض الغزالي وحده وتتحين اللحظة التي يمكن أن تنقض عليه لتثأر لنفسها منه ومن فكره الذي كشف عوار الفلسفة والفلاسفة، وهدمها بشكل غير مسبوق ولا متبوع في مؤلفاته وعلى رأسها كتابه "تهافت الفلاسفة".
يقول القاضي أبوبكر بن العربي عن الغزالي ومنهجه في رده على الفلاسفة (انظر: آراء أبي بكر بن العربي الكلامية، 106):
"انتدب للرد عليهم بلغتهم، ومكافحتهم بسلاحهم، وانقض عليهم بأدلتهم، فأجاد فيما أجدا، وأبدع في ذلك، كما أراد الله وأراد، وبلغ في فضحهم المراد، فأفسد قولهم من قولهم، وذبحهم بمداهم، فكان من جيد ما أتاه، وأحسن ما رواه ورآه فيما يختصون به دون مشاركة أهل البدع لهم كتابا سماه "تهافت الفلاسفة" ظهرت فيه منته، ووضحت في درك المعرف مرتبته، وأبدع في استخراج الأدلة من القرآن على رسم الترتيب في الوزن الذي اشترطوه".
وبالتالي فإن اختيار الدكتور الخشت للغزالي ليس كما فهم البعض أنه انتصار للمنهج السلفي بقدر ما ما استدعاء لثأر الفلاسفة والمدرسة الرشدية من تراث الغزالي- رحمه الله-.
ولأن الدكتور محمد عثمان الخشت رئيس جامعة القاهرة، يمثل الاتجاه الفلسفي الذي هو أحد أعمدته، باعتباره في الأساس أستاذا للفلسفة، فإن الرد على مقاله المنشور في صحيفة الأهرام المصرية بتاريخ الأحد 3 من يناير 2021م، تحت عنوان (ضد التصور الأسطوري للمرأة)، لا ينبغي أن يخرج عن إطار الفلسفة، التي هي فنه وملعبه، فليسمح لنا أن ندخل هذا الملعب معه، وليتسع صدره لينتقده أحد تلاميذ جامعة القاهرة العريقة.
في البداية ربما نصدم الدكتور الخشت باتهامنا إياه بأنه يشبه المرأة بالشيطان، ولا يدافع عنها كما يحاول أن يثبت في مقاله، وأن الغزالي- رحمه الله- هو الذي ينصف المرأة بمنهجه العقلي، لعدة اعتبارات منطقية.
يتهم الدكتور الخشت الإمام الغزالي بأنه يشبه المرأة بالشيطان، فيقول: " يستشهد الغزالي بكل بساطة على تصوره للمرأة بحديث يوجد بإسناده جهالة، أي بحديث يوجد بسنده مشكلة حقيقية تمنع التصديق بأن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال هذا القول، ومع ذلك نسب إلى الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه قال :"النساء حبائل الشيطان ولولا هذه الشهوة لما كان للنساء سلطنة على الرجال". والحبائل جمع حِبالة بالكسر، وهي المصيدة المصنوعة من حبال يصاد ويُؤخذ بها الصَّيد، وقال الحافظ العراقي: أخرجه الأصفهاني في الترغيب والترهيب من حديث خالد بن زيد الجهني بإسناد فيه جهالة. وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة. وانظر المقاصد الحسنة للسخاوي بتحقيقي، وكشف الخفاء للعجلوني، ونصب الراية للزيلعي، ومسند الشهاب، والمغازي للواقدي، ودلائل النبوة للبيهقي، والمصنف لابن أبي شيبة، والبيان والتبيين للجاحظ، والدر المنثور للسيوطي".
ثم يتساءل فيقول: "والسؤال كيف يروج الغزالي في كتاب (إحياء علوم الدين) لحديث يوجد بإسناده جهالة، حديث لم يثبت أن النبي قاله، والخطورة أنه ليس قولا عاديا في مسألة جزئية، بل في حكم عام يشكل ويكون تصورا عاما للمرأة، وهو حكم خطير لأنه يشكل نظرة متدنية للمرأة ويجعلها موضع التحقير وفي مربع واحد مع الشيطان! هكذا مرة واحدة يحكم على النساء (أمي وأمك، وابنتي وابنتك، وأختي وأختك، ومدرستي ومدرستك، وجدتي وجدتك، ...)، أنهن حبائل الشيطان، إنهن أدوات الشيطان!".
لن نتحدث هنا عن صحة الحديث من ضعفه، ولن ندخل في شرحه فهذا ليس مجالنا الآن ولكن نكتفي بتطبيق القواعد المنطقية والفلسفية على فهم الدكتور الخشت للحديث الذي يتوافق مع نصوص شرعية صحيحة متواترة أخرى ومنها ما ورد في القرآن الكريم نفسه.
الدكتور الخشت ذهب إلى أن الغزالي- رحمه الله- وضع المرأة في مربع واحد مع الشيطان، وهذا صحيح من الناحية المنطقية، لكنه وقع في مشكلة جعلته يذهب بعيدا عن فهم النص وفهم مقصد الغزالي، ليقع هو نفسه في تشبيه المرأة بالشيطان بدلا من الدفاع عنها عندما ناقض الأصول المنطقية التي هي أصل من أصول تخصصه الفلسفي.
فقد اتفق الفلاسفة والمنطقيون على أن كل تصور لا بد له من تعريف، ولهذا يقول صاحب كتاب تبسيط المنطق: " فالتعريفات مقاصد التصورات. مهمتها تمييز الكليات عن المعاني المفردة وإدراك الماهيات والأعراض. وإخراج ما لا يندرج تحته من أفراد. ويكفي أن تتذكّر أن العلوم كلها لا بد وأن تحتاج إلى تحديد مفاهيمها وإلا تميّعت المقاصد واختلت الإدراكات".
والحقيقة فإن تمييع المقاصد واختلال الإدراكات في محاولة إثبات أن الغزالي والنصوص الشرعية تشبه المرأة بالشيطان، هو ما وقع فيه أستاذنا الدكتور الخشت في مقاله، ولتبسيط المسألة بعيدا عن المصطلحات الفلسفية والمنطقية نقول:
في تعريف أي مصطلح ومقارنته بغيره، هناك قدر مشترك وقدر فارق، فمثلا هناك قدر مشترك بين الحمار وأستاذ الجامعة، فالحمار: كائن حي، يتحرك، ويتنفس، ويأكل، ويشرب، ويتكاثر وينمو، وما إلى ذلك من صفات، ولا يختلف أحد على أن أستاذ الجامعة هو أيضا: كائن حي، يتحرك، ويتنفس، ويأكل، ويشرب، ويتكاثر وينمو.
إلا أن هناك قدرًا فارقًا بين الاثنين؛ فالحمار حيوان، ليس مكلفًا ولا مأمورًا بشيء من الدين، مسخر لخدمة الإنسان على هيئته التي خلقه الله تعالى عليها، وأستاذ الجامعة، إنسان كرمه الله تعالى وصوره في أحسن تقويم على الهيئة التي هو عليها، مأمور بتكليفات شرعية وبعمارة الأرض، وبالتالي فالقول بإن تشبيه الحمار بأستاذ الجامعة في القدر المشترك هو حط من شأن أستاذ الجامعة ونعته بأنه حمار، يخالف القواعد والتعريفات المنطقية والفلسفية، كما يعتبر نوعًا من القصور في الفهم، إلا إذا كان صاحب هذا الفهم لديه ضبابية في التصور فإذا ذكر لديه أستاذ الجامعة تبادر إلى ذهنه صورة حمار!!.
تلك الصورة المنطقية هي التي يدندن حولها كثير من العقلانيين من أصحاب الدعوة لتنقيح التراث، في كل النصوص الشرعية، التي تتحدث عن المرأة والقدر المشترك بينها وبين كائنات أخرى، يستخدمونها لاتهام تراث الإسلام ونصوص الشرع بأنها تحتقر المرأة رغم أن الواقع يناقض هذه النظرة تمامًا.
فإذا ذكرت المرأة في أي نص، وجاء بعدها أي كائن آخر، كشيطان أو حيوان اتهموا النص بأنه يشبهها بهذه الكائنات، كالشيطان في الحديث السابق أو الحيوان كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: " يقطع صلاة الرجل، إذا لم يكن بين يديه مثل آخرة الرحل، المرأة والحمار والكلب الأسود"، فهل الجمع بين علة المرور في قطع الصلاة بين المرأة والحمار والكلب يجعل المرأة في منزلة هذه الحيوانات؟!
ورغم أن أهل العلم شرحوا هذه النصوص بشكل لا لبس فيه إلا أن الدكتور الخشت ومدرسته لا يزالون مصرين على الصورة الذهنية التي رسموها مسبقا بأنه إذا ذكر اسم المرأة في نص شرعي مقرونة بشيطان أو حمار، أو ما إلى ذلك من كائنات فإنه لا يرى القدر الفارق ويقرأ النص من منظوره الخاص فيرى أن المرأة عبارة عن شيطان أو حمار أو كلب، ثم ينطلق من هذه الرؤية القاصرة يدافع عن المرأة رغم أن النص لا يحمل هذا التصور.
وبالتالي فإن السؤال هنا من الذي تصور أن المرأة شيطان، الغزالي أم الخشت؟