الوثيقة
الرأي الحر

مرام فرج تكتب: هل ابتلعتَ الغصّة من قبل؟ أ

الوثيقة

مرام فرج تكتب: هل ابتلعتَ الغصّة من قبل؟


أفكارٌ كثيرة كانت تتلاطم في رأسي مع حلول شهر رمضان. ذكرياتُ الجوع تسكنُ عقلي بلا مقابل، وتتشبّث بقلبي كوشمٍ لا يُمحى. ستةَ عشرَ شهرًا من التوسّلِ للبقاء على قيد الحياة، نلهثُ وراءَ وجبةٍ واحدةٍ تليقُ بالبشر وكأننا مدمنون على مخدرات الطعام. والآن، مع ما يُسمّى بـ “وقف إطلاق النار”، يبدو أن كل شيء على ما يرام، أليس كذلك؟ لكن رمضان هو ما أحتاجه لأتعافى جسديًا، وعقليًا، وروحيًا. كنتُ متحمّسةً لاستقباله هذا العام؛ لديَّ طعامٌ أفضل، لا غارات إسرائيلية، لا فقدانٌ لأحبّتي، والأهم أنني لم أعُد أعيشُ في ظل الخيمة، بل في منزلٍ مستأجر.

ظننتُ أن حياتي ستبدأ أخيرًا في الاستقرار—لن أعودَ أبدًا كما كنت، لكنني أحاولُ جاهدًا أن أصارع شياطيني الداخلية—وقد أتمكّنُ قريبًا من العودة إلى شمال غزة. مع مرور أول يومٍ من رمضان، أعدّت لي أمي طبقي الفلسطيني المفضّل؛ المقلوبة. صدّقوني، كنتُ أعيشُ لحظةً من السعادةِ الخالصة. لكن الحياةَ في غزة لا تمنحنا السعادةَ طويلًا؛ ففي غمضةِ عين، وجدتُ نفسي ممزقةً من جديد.

في اليوم الثاني من رمضان، الثاني من مارس، أوقفت إسرائيل إدخال المساعدات الإنسانية إلى غزة. عاد الجوع ليخنقنا من جديد. وكأن القيامةَ قد حَلّت. تدافعَ الناسُ إلى الأسواقِ في محاولةٍ يائسةٍ لتأمينِ ما تبقّى من طعام، لكنّ الرفوفَ كانت قد أُفرغت قبل أن يتمكّنَ الجميع من شراء شيء. فهل كانَ التجارُ هم من رفعوا الأسعار عمدًا، أم أن غزة قد استنزفت مواردها حقًا؟ خلال الستةَ عشرَ يومًا التالية، أصبحَ البحثُ عن الطعامِ معركةً يوميةً علينا خوضُها لنتمكّنَ من الصيامِ والبقاءِ على قيدِ الحياة.

في الثامن عشر من مارس، عند الساعة الثانية فجرًا، كنتُ أنتظرُ وجبةَ السحور—الوجبةُ الأخيرةُ التي تُعيننا على الصيام—وأشاهد أنميي المفضل الخادم الأسود لأُضيّع الوقت. فجأة، وقع هجومٌ وحشي. هجوم؟ أليس هناك وقفٌ لإطلاق النار في غزة؟ يبدو أن إسرائيل قد استأنفتْ حرب الإبادةِ من جديد، هذه المرة بوحشيةٍ أشدّ، مدمّرةً “الهدنة” التي لم تحترمها يومًا. انهمرت القنابل فوق رؤوسنا، ودَوّت الانفجارات في أرجاء المكان، مزّقةً سكون الليلِ، وسارقةً منّا أيَّ لحظةِ سلامٍ كنّا نحاولُ التشبّثَ بها.

أنا وعائلتي مشرّدون منذ العاشر من أكتوبر 2023. بعد أسبوعينِ فقط من تدمير منزلنا في شمال غزة، اضطررنا للفرارِ جنوبًا بحثًا عن مأوى. أقمنا في منزلِ جدتي في المغراقة 23 يومًا، ثم تحت تهديدِ السلاح، لجأنا إلى منزلِ خالتّي في مخيم المغازي، وهناك، أُجبرنا على الفرارِ مجددًا نحو رفح، لنعيشَ في الخيام. على الرغم من قسوةِ الحياةِ هناك، أصبحت تلك الخيامُ عالمَنا الوحيد، وسقفَنا الذي يحمينا من اللاشيء.

تلك الليلة، كانت القنابلُ شديدةً لدرجة أن أبواب منزلنا المستأجر تحطّمت، وانهارت فوق رؤوسنا ونحنُ نرتجفُ من الخوف. اختلط صوت الحطامِ بالسقوطِ مع أصداءِ الانفجارات في الخارج—تذكيرٌ وحشيٌّ بأنه لا يوجدُ مكانٌ آمنٌ في غزة.

في الخارج، كان الدمارُ أسوأ. استهدفت الصواريخُ خيامًا كانت تؤوي النازحين، هؤلاء الذين فقدوا منازلهم وأحبّتهم وظلّوا يركضون خلفَ سراب الأمان. أُحرقَ الناسُ أحياءً، احترقت أجسادهم حتى لم يبقَ منهم سوى رماد. كيف يمكنُ للكلماتِ أن تصفَ هولَ المشهد؟ كيف يمكنُ للإنسانِ أن يتحمّلَ رؤيةَ الأرواحِ تتلاشى كأنها لم تكن؟

ومع شروقِ الشمس، حمل إلينا الفجرُ فاجعةً أكبر. قُتل اثنان من أبناء عمومتي، حمزة (24 عامًا) ووئام (18 عامًا)، في قصفٍ بطائرةٍ مسيّرة، بينما كانا يحاولان تفقدَ ما تبقى من منزلهما المدمّرِ في المغراقة. بقيا هناك، متمسكينَ بذكرياتهم، مُصرّينَ على ألّا يُمحى وجودهم. لكنّ القاتلَ كان لهم بالمرصاد.

وئام، الذي وُلد بينما كان والده أسيرًا في سجون الاحتلال، كان الفتى الذي أحبّه الجميع. كان قلبه نقيًا، روحه حرّة، يبعثُ الحياةَ في كلّ مكانٍ يمرّ به. أمّا حمزة، فكان شابًا أكبرَ من عمره، ناضجًا، مسؤولًا، ذو فكرٍ استثنائي. استشهد حمزة قبل ثلاثة أيام فقط من عيد ميلاده.

في تلك الليلة، ذهبَ حمزة ووئام برفقةِ شقيقيهما إلى المغراقة لتفقّدِ الخيمةِ التي بنوها فوقَ أنقاضِ منزلهم. عندما بدأ القصف، ركضوا جميعًا في الظلام، يهربون بأرواحهم. لكنّ وئام، المسكين، لم يُكمل الركض. توقف للحظةٍ ليصرخَ في إخوته: “اهربوا!” فأصابته الطائرةُ المسيّرة بصاروخٍ واحدٍ فقط، فمزّقتهُ أشلاءً في المكان.

رأى حمزة شقيقه يختفي في لحظة. لم يتردد، لم يفكّر، ركضَ نحوهُ رغمَ أنّ الجميعَ كانَ يصرخُ بهِ ألّا يفعل. ركضَ إلى قلب الموت فقط لأنه لم يستطع أن يتخلى عن أخيه الصغير.

أُطلقت عليه أربعُ رصاصاتٍ في صدره، قتله نفس القاتل الذي قتل أخاه، قتلَ آلافًا منّا، ويستمرّ بالقتلِ دون محاسبة.

كان حمزة ليكونَ بيننا اليوم، لكنه كان وفيًا لعائلتهِ أكثرَ من وفائهِ للحياة. ليسَ كلُّ الأبطالِ يرتدونَ عباءاتٍ، لكنّ حمزة ارتدى عباءةَ الإنسانيةِ والشجاعةِ حتى آخرِ نفس.

رحلَ أبناءُ خالي وخالتّي، واحترقت الخيامُ التي كانت تؤوي العائلات، لكنّ غزة تبقى، ونحنُ نبقى. حتى لو كُسر السلام، وحتى لو صار الأملُ مستحيلًا، سنظلّ نحملُ رواياتِ الألمِ التي تشكّلُ حياتنا.

كلّما فكرتُ فيهم، ابتلع الغصّة.
كلّما كسرتُ صيامي على طعامٍ معلّب، ابتلع الغصّة.
كلّما تذكّرتُ أن العالم يُغض الطرف عن المجازرِ في غزة، ابتلع الغصّة.

أصبحت الغصّة شوكةً في حلقي، وخنجرًا في معدتي، ورمحًا مغروسًا في قلبي.

اللهم ارحم أبناء عائلتي، وتغمّدهم بواسعِ رحمتك، وامنحنا الصبرَ والقوةَ على هذا الألمِ الذي لا ينتهي.

الرأي الحر